قصص من الثرات العربي
قصة خُزيمة بن بشر
في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، كان رجلٌ يُدعى خُزَيْمَةَ بْنُ بِشْر من قبيلة بني أسد التي تسكن منطقة الرِّقة، وكان صاحب مروءةٍ وكرمٍ وفضلٍ، ولم يزل على تلك الحال زمناً من عمره، فحدث أن ابْتُلِيَ بِزَوَالِ المال، و ضاقت عليه الدُّنيا، واحتاج إلى إخوانه الذين كان يُكْرِمُهُم ويُحْسِنُ إليهم ويتفضل عليهم فيما مضى من الأيام . فَوَاسَوْهُ وأحْسَنُوا إليه زَمَــناَ حتـى مَلُّوه وتخلَّوْا عنه، فلما رأى تَـغَيُّرهم عليه، حزن كثيراً ولزم بيته.
وكان عِكْرِمَة الْفَيَّاض الرِّبعيّ واليـاً على الجزيرة الفراتية في تلك الأيام ، وبينما هو ذات يوم مع أصدقاءٍ له يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث، إذْ مَرَّ على لسان أحدهم ذِكْرَ “خزيمة بن بشر ” في حضرة عدد من وجهـاء البلد،فقال عكرمة:
ما حاله -أي خزيمة-؟
فقالوا :
لقد صار من سوء الحال إلى شئٍ لا يوصف، ولزم بيته من شدة الحاجة و الضيق
فقال عكرمة:
ألم يجد من إخوانه مواسٍ ولا مُكافئ ؟
قالوا :
واسَوْهُ ومَـلُّوه!
فصمت عكرمة،وأمسك على ما في نفسه
فلمّا كان الليل، أخرج من ماله أربعة آلاف دينار، فجمعها في كيس،ثم خرج متخفيّاً
حتى وصل دار خزيمة بن بشر ، فقرع الباب، و إذا بخزيمة يفتح الباب ويسأل الضيف:
من أنت؟
فناوله الكيس، وقال له : أصلح بهذا حالك
فقال له :من أنت،جُعِلتُ فداءَك؟
فقال له عكرمة :مَـا جِئتُ في هذه الساعة متخفياً لِأُعرِّفـكَ بنفسي!
خزيمة: مـا أقْبَلُهُ، حتى تُعَرِّفني من أنت؟
عكرمة: أنا… أنا…”جابر عثرات الكرام ”
خزيمة: زدني -أي معرفة بك-
قال عكرمة: لا … هذا يكفي …ثم مضى
عند الخليفة
وفي صباح اليوم التالي، قام خزيمة وأصلح من حاله، وقام بتسديد الدّيون التي كانت عليه، ثم جَــهَّـزَ نفسه يريد الذهاب إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما جاءه وسلم عليه
قال لـه سليمان: يا خزيمة، ما أبطأك عنّي؟
خزيمة: سوء الحال
قال سليمان:ما منعك من النُّهوض إلينا ؟
خزيمة: ضُعْفي عنها
قال سليمان: فبِمَ نهضتَ؟
خزيمة: يا أمير المؤمنين،كنت في هدأة الليل، وإذا برجلٌ قد وقف بباب بيتي، فكان منه كذا وكذا….وأخبره القصة كاملةً
قال سليمان : هل تعرفه؟
خزيمة: ما عرفته يا أمير المؤمنين، وذلك أنه كان متنكراً
فتأسّفَ سليمان على عدم معرفته وقال:
لو عرفناه،لأعَنّاهُ على مروءته، وأكرمناه
خزيمة أميراً على الجزيرة
وقام سليمان بن عبد الملك بتعيين خزيمة أميراً على الجزيرة، مكان عكرمة الفيّاض
ومضى خزيمة إلى الجزيرة، وأصبح والِياً عليها… ثم وجد أن هناك ديوناً كثيرة على عكرمة الفيّاض، فبعث إليه في أدائها فقال عكرمة:
ما لي إلى شئٍ منها سبيل، ما هي عندي،واصنع ما أنت صانع
فأمر أن يُكَبّلَ بالحديد، فأقام على ذلك شهراً… فعلمت بذلك إمرأةُ عكرمة، فأرسلت جاريتها لتقول للوالي:
ما هكذا جزاءُ “جابر عثرات الكرام” منك! كافأته بالحبس والضيق والحديد
فصاح خزيمة: وا سَوأتاه! وإنّه لَهُوَ.. ؟
فقالت:نعم ثم ذهبت
وبعث خزيمة إلى وجهاء أهل البلد، فجمعهم،ثم خرج بهم إلى الحَبْس.
فلما رآه السجّان قام إليه مذعوراً…فأمره الوالـي بفتح باب السجن في وجه عكرمة ففعل، فدخل هو ومن معه، فوجد عكرمة في ساحة الحبس قد أصابه الضُر… فأكَبّ خزيمة على رأس عكرمة يُقَبِّلُهُ
فرفع عكرمة رأسه إليه وقال: ما الذي دعاك لمثل هذا؟
قال خزيمة: كريمُ أفعالك،وسوءُ مُكافأتي
قال: يغفر الله لنا ذلك
فأُتي بالحداد، ففكّ القيود من رجليه، وأمر أن تُطرح في رجليه هو -أي خزيمة
فقال عكرمة: تُريد ماذا؟
خزيمة: أريد أن ينالني من الضُرّ والحبس مِثْلَ ما نالك
عكرمة: والله لا كان ذلك، فخرجوا جميعاً
وطلب الوالي خزيمة من عكرمة الفيّاض أن يسير معه إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك فقبل.
فلما وصلا ، قال سليمان للوالي: ما أقدمك؟
خزيمة: وجدتُ “جابر عثرات الكرام”، وأحببتُ أن أسُرّكَ به لما رأيتُ من تَلَهُفِكَ عليه
قال: ومن هو؟
خزيمة : عكرمة الفيّاض
قال سليمان: ما كان خيره منك إلاَّ وبَـالاً عليه، فسلّم عليه، ورحّبَ به، وأدناه من مجلسه، ثم قال
يا عكرمة،إرفع إلينا حوائجك كلها
عكرمة: إعفني يا أمير المؤمنين
قال سليمان: لا بُـــدّ
عكرمة الفيّاض والياً مرة أخرى
ثم دعا سليمان بدواةٍ وقرطاس، وقال: إعْتَزٍلْ ناحيةً، واكتب جميع حوائجك، ففعل. ثم أتاه برقعة فوقّعَ عليها: تُقضى حوائجه
ثم أمر له بعشرة الآف دينار و عَيّنه أميراً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وقال له:
أَمْرُ خزيمةَ لك، إنْ شِئْتَ فاعْزِلْهُ، وإن شئتَ فاتْرُكْهُ في عمله، فقال
بل أزيده عملاً إلى عمله يا أمير المؤمنين.
كنتم مع قصة خُزيمة بن بشر , وإلى فرصة قادمة بإذن الله
قصص من الثرات العربي