قبل أن أبدأ في سرد هذه القصة العجيبة والمشوّقة ، أدعوكم للتّعرف على من هو الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر من ويكيبيديا .
قصة الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر ، الحمّار الذي وصل منصب الخلافة في الأندلس، قصة غاية في الروعة
القصة حدثت تفاصيلها في بلاد الأندلس إبان حكم الدولة الأموية وهي من روائع القصص التاريخية :
يحكى أن ثلاثة من الشبّان كانوا يعملون حَمَّارين، ينقلون بضائع الناس من السوق إلى بيوتهم على حميرهم، ومن بين هؤلاء الثلاثة، شاب إسمه محمداً قدِم من اليمن لتعلم الفقه في قرطبة. وفي ليلة من الليالي وبعد يوم عمل شاق ، جلس الشبان الثلاثة يتناولون عشاءهم ثم تسامروا وضحكوا وروَّحوا عن أنفسهم .. فقال « محمد » :
تخيلوا أنني أصبحت خليفة على المسلمين في كل بلاد الأندلس، ماذا تتمنيان؟
فقالا: يا محمد! ما هذا الخيال ؟ أنت تحلم، و حلمك بعيد بعد السماء عن الأرض.
فقال لهم محمد: إفترضا جدلاً أنني أصبحت خليفة للمسلمين، ماذا يمكنكما أن تطلبا مني؟
فقال أحدهم : هذا حلم اليقظة لا يمكن تحقيقه ، ولا يمكن تصديقه حتى في المنام.
وقال الآخر: يا محمد أنت وُلِدْت لتكون حمّاراً ولا شيئ غير الحمّار، أما الخليفة فذاك شأن أخر .. نم وكفاك حلماً ..
قال محمد: ” قلت لكما افترضا جدلاً أنني أصبحت خليفة . أعرف أن هذه الأمنية ثقيلة على عقلكما الصغير ولكن تخيلا ذلك.”
غَرِقَ محمدٌ في خياله وأحلامه التي جعلته يشعر بأنه سيجلس على عرش الخلافة طال الزمان ام قصر، كل هذا وهو ينتظر أمنية صديقيه اللذان اشتغلا عنه بالحديث مع بعضهما.. فكرر السؤال مرة أخرى واتجه نحو أحدهما:
ماذا تتمنى أيها الرجل ؟
فرد عليه الشاب الطموح : أريد حدائق غنّاء،
قال محمد: وماذا أيضاً؟
قال الشاب الذي أعجب بالفكرة: أريد إسطبلاً من الخيل.
واسترسل محمد : وماذا أيضاً، أطلب تعطى؟
فقال الشاب: أريد مائة جارية يامولاي.
وماذا بعدُ أيها الشاب الطموح؟
فرد الشاب ، وقد أعجبته الأمنية وجعلته يسرح في خيالٍ جميل: إذا تفضل مولاي، أريد مائة ألف دينار ذهباً
قال محمد: وماذا أيضاً؟
فرد عليه الشاب: يكفيني هذا يا أمير المؤمنين !
جرى هذا الحوار في جو من المرح ومتعة الخيال ، فقد غاص محمد بن أبي عامر في بحر خياله اللامحدود وهو يرى نفسه على عرش الخلافة، مفتخراً بعطاءاته الكبيرة التي يُقدمها بسخاء الكرماء. ويشعر بمشاعر السعادة وهو يعطي بعد أن كان يأخذ، و ينفق بعدما كان يطلب، ويأمر بعدما كان يُنفذ،
وفجأة وجد نفسه ما زال حمّاراً فقيراً ..يعيش في بيئةٍ يَسِمُها البؤس والشقاء ..
التفت محمد إلى صاحبه الآخر وقال له:
وأنت أيها الرجل ماذا تريد ؟
فرد عليه الأخر بازدراء وتهكم: « يا محمد إنما أنت حمّار، والحَّمار لا يصلح أن يكون خليفة .. »
فقال محمد: يا أخي قلت لك افترض أنني الخليفة ولم أقل لك إجزم في القضية .فماذا تتمنى؟
فرد الشاب المتشائم: إنّ وقوع السماء على الأرض أيسر من وصولك إلى الخلافة،
فقال محمد: ” دعني من هذا كله، ماذا تتمنى أيها الرجل؟ “
قال الشاب: إسمع يا محمد، إذا أصبحت خليفةً ، فاجعلني على حمار ، ووجه وجهي إلى الوراء، ثم أمر منادياً يسير بي في أزقة المدينة وينادي : « أيها الناس! أيها الناس! هذا دجال محتال، من يمشي معه أو يحدثه أودعته السجن !.. »
وانتهى الحوار ونام الجميع ..
ومع آذان الفجر استيقظ محمد وصلى صلاة الصبح. ثم جلس يُفكر فيما كان يفكر فيه قبل النوم..
هل فعلاً أن الذي يعمل حَّماراً لن يصل إلى الخلافة؟ الجواب على هذا السؤال سيكلفه الكثير من الجهد والتفكير..
فكر محمدٌ طويلاً، وبعدها قرر أن يقوم بالخطوة الأولى للوصول إلى الهدف المنشود .. أعياه التفكير والتخطيط، حتى توصل إلى قناعة لا رجعة فيها ، وأحس بنشوه تغمره وهو يحدد الخطوة الأولى .
كانت خطوة محمد الأولى هي بيع الحمار والبحث عن طريق يوصله إلى السلطة. وفعلاً باع الحمار وانطلق بكل ثقة وإصرار وجِدٍّ يبحث عن الطريق الموصل إلى الهدف . فقرر أن يعمل في الشرطة بكل جد ونشاط.
أخذ محمد ابن أبي عامر يجتهد بكل تفان وإخلاص في عمله الجديد، تماماً كما كان يفعل وهو حمَّاراً…
نال محمد إعجاب رؤسائه وزملائه ، كما حضي باحترام الناس ، فأخذ يترقى في عمله حتى أصبح رئيساً لقسم الشرطة في الدولة الأموية في الأندلس.
وبعد أن مات الخليفة الأموي تولى إبنه هشام المؤيد بالله الخلافة بعده ، وكان عمره آنذاك عشر سنوات . وبما أن الطفل في هذا السن لا يمكنه إدارة شؤون الدولة فقد أجمع حكماء الدولة وسياسييها أن يجعلوا عليه وصياً حتى يكبر ويصبح راشداً صالحاً لأخذ زمام الخلافة. ولكنهم خافوا أن يجعلوا عليه وصياً من بني أمية فيأخذ منه الملك… فقرروا أن يختاروا واحداً من بين مجموعة من الأوصياء المرشحين من غير بني أُمَيَّة . فوقع الاختيار على محمد بن أبي عامر، وابن أبي غالب، والمصحفي .
فأصبح محمد بن أبي عامر مقرباً إلى “صبح البشكنجية ” أم الخليفة واستطاع أن يمتلك ثقتها ووشى بالمصحفي عندها فأُزيل المصحفي من الوصاية وزوج محمد ابنه بابنة ابن أبي غالب ثم أصبح بعد ذلك هو الوصي الوحيد، فاتخذ مجموعة من القرارات، ومن بين قراراته أن لا يخرج الخليفة إلا بإذنه . ثم نقل شئون الحكم إلى قصره . وجيش الجيوش وفتح الأمصار واتسعت دولة بني أمية في عهده و حقق من الانتصارات ما لم يحققه خلفاء بني أمية من قبل في الأندلس، حتى اعتبر بعض المؤرخين أن تلك الفترة، كانت فترة انقطاع في الدولة الأموية، وسميت بالدولة العامرية،
قصة الحمّار الذي أصبح خليفة في الأندلس
هكذا تمكن الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر من أن يحقق أهدافه بشتى الطرق المتاحة له.
وفي يوم من الأيام، وبعد ثلاثين سنة من بيع الحمار ، كان الحاجب المنصور يعتلي عرش الخلافة وحوله الفقهاء والأمراء والعلماء، تذكر صاحبيه الحَّمارين، فأرسل أحد الجند إليهما وقال له :
قصة الحمّار الذي أصبح خليفة في الأندلس
« إذهب إلى مكان كذا فإذا وجدت رجلين صفتهما كذا وكذا فآتيني بهما على الفور . »
ووصل الجندي فوجد الرجلين بنفس الصفة وفي نفس المكان . فقال لهما:
” إن أمير المؤمنين يطلبكما للوقوف عنده الآن “
إندهشا الرجلان وقالا: « أمير المؤمنين يطلبنا! إننا لم نذنب ولم نفعل شيئاً .. ماجرمنا ؟
قال الجندي: لا أدري ولكنه أمرني أن آتي بكما،
وعندما وصل الرجلان إلى القصر، أدخلهما الجندي إلى قاعة العرش فنظرا إلى الخليفة ، فإذا به محمد الحمّار ، صديقهما الذي كان يحلم ذات ليلة بمقام الخليفة.
قالا باستغراب وهما لا يكادان يصدقان عيناهما : إنه صاحبنا محمد … والله إنه هو !
قال الحاجب المنصور: أعرفتماني ؟
قالا: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن نخشى أن لا تعرفنا !
قال الخليفة : بل عرفتكما، ثم نظر إلى الحاشية وقال :
كنت أنا وهاذين الرجلين نعيش سوياً قبل ثلاثين سنة ، وكنا نعمل حَّمارين، وفي ليلة من الليالي جلسنا نتسامر، فقلت لهما إذا كنت خليفة فماذا تتمنيان ؟ فقال كل واحد منهما أمنيته ..
ثم التفتَ إلى أحدهما، وقال: ماذا تمنيت يا فلان ؟
قال الرجل الطموح: حدائق غنّاء،
فقال الخليفة : لك حديقة كذا وكذا،
وماذا أيضاً؟
قال الرجل: إسطبلاً من الخيل،
قال الخليفة: لك ذلك.
وماذا أيضاً ؟
قال: مائة جارية،
فرد الخليفة: لك مائة من الجواري،
ثم ماذا أيضاً ؟
قال الرجل: مائة ألف دينار ذهباً،
قال الخليفة: هو لك،
وماذا أيضاً؟
قال الرجل: هذا يكفيني يا أمير المؤمنين
قال الحاجب المنصور: ولك منا راتباً مقطوعاً وأن تدخل عليّ بغير استئذان.
ثم التفت إلى الآخر وقال له: ماذا تمنيت ؟
قال الرجل: اعفني يا أمير المؤمنين،
قال الخليفة: لا والله حتى تخبرهم
فقال الرجل: الصحبة يا أمير المؤمنين،
قال الخليفة: حتى تخبرهم،
فقال الرجل: قلت إن أصبحت خليفة فاجعلني على حمارٍ واجعل وجهي إلى الوراء وأمر منادياً ينادي في الناس:
« أيها الناس.. هذا دجال محتال.. من يمشي معه أو يحدثه أودعته السجن ».
قال الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر: افعلوا به ما تمنى حتى يعلم أن الله على كل شيئ قدير .
إنتهت القصة .. في أمان الله
قصة الحمّار الذي أصبح خليفة في الأندلس
أرى أن هذه المواضيع قد تهمك: |
إذا أعجبك هذا المحتوى، فلا تَقْرَأْ وتَرْحَل … تَـعْلِيقَـاتُكَ تَـشْجِيعٌ لَـنَـا لِنَسْتَمِرَّ فِــي الْبَحْثِ وَالْعَطَـاء. وإِذَا كنت تعتقد أنه قد يكون مفيداً لأشخاص آخرين، فشَارِكْهَ على الشبكات الاجتماعية.
قصص جميلة مشوقة فيها عظة واعتبار
شكراً لك سيدى على مرورك الطيب وتعليقك المدعِّم والمشجِّع ، تقبل تحياتي