قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
روايات البطولات من نسج الخيال ، كانت تحكى في النوادي و مجامع الأسر .
أصل الفارسان الأقرعان
كان يا ما كان في غابر الزمان وسالف العصر والأوان، كان الصدق والشجاعة والأمان، وكان الحياء يعم كل مكان، كان رجل من الشجعان، يعيش بين الضفتين في سهل الريحان، وكان يحب المغامرة ومصارعة الفرسان ، وكذا صيد الأسد والغزلان، وكانت له زوجتان من أجمل الحسان ، لكن يا دام عزكم حُـرمتا من الخلفة والصبيان واشتاقتا إلى الفتيان والولدان.و مرت السنون والأعوام وهما على هذا الحال حتى لوحظ عليهما الوحم وانتفاخ البطنان، فعمت الفرحة وزاد الرجل في السخاء والاكرام ونال من كرمه حتى الغريب من رجال ونسوان . فجاء الوقت المقدر ووضعت الزوجتان المولودان في نفس الوقت والأوان وكانا ذكران متشابهان كأنهما قمران ، ومن يراهما يحسبهما توأمان ، لهما نفس الوصف في الجسم والعينين فسماهما أبوهما بالأقرعين لانعدام الشعر فوق جلد الرأسين. وبعد مورور وقت قصير توفيت إحدى الزوجتين وتبعها الأب بعد عامين وبقي الولدان في ذمة احدى الأمّين ترعاهما بحليب الثديين وهما يكبران وينموان ويلعبان لعب الصبيان، حتى بلغا مبلغ الرجال بصفات القوة و الكمال وأتقنا سائر فنون القتال وصارا من الفرسان يقهران سائر الشجعان في كل ميدان .وكانا شغوفان بصيد أشرس الحيوان من أسد وعقبان وكذا النمور والغزلان، وكانت أمهما لا تميز بينهما لتشابههما الدقيق، فاشتكت أمرهما لعجوز شمطاء ذات بشرة رقطاء أخذت نصيبها من كيد النساء، فاقترحت عليها حيلة نكراء. فذهبت الأم في الحال الى غدير ذو ماء زلال وانتظرت مقدم الأبطال لمورد الخيل والأنعام .فتصنعت السقوط في الغدير وهي تصرخ بصوت هدير وتطلب حسن التدبير. فهب ولدها من صلبها على جناح السرعة وخلص أمه من الغرق، فوضعت على حين غفلة في جسده علامة لتبقى كأمارة ولها اشارة. فأما ربيبها فنزل من على فرسه على مهل ليشارك في العمل وقد طمأن الأم على ما حصل وهي غير ملتفتة للقول. ولما دخلوا المنزل وولج كل واحد حجرته دبرت الأم العمل وناولت فلذة كبدها خاتماً من يدها وأوصته بالاحتفاظ به وأغدقت عليه بالنعم وبما لا يخطر على بال .ومنذ ذلك الحين غيرت المعاملة مع الربيب المسكين لا تطعمه غير الزيتون واللبن وخبز الشعير فأحس المسكين بالاهمال والاحتقار . وفي كل مرة كانت تطلب منهما أن يتصارعا وكانت الغلبة دائماً لربيبها بأمر من ربها ، ليزيد ذلك من حقدها على ربيبها وأضمرت هذا الحقد حتى حين لتتمكن من القضاء على أثر ضرتها. وكذلك كان، فقد بدأت تطلب منهما عدم الصيد مشتركين في نفس المكان لتُفرق بينهما وتخفي التمييز في معاملتها ولا يعرف الربيب ما في زاد أخيه من نعم. وذات يوم التقى الأخوان صدفة في مكان الصيد دون بغض أو حقد بينهما، ولما اكتشف الابن ما في زاد الربيب من شح .طلب منه أن يذهب للمنزل ليأتيه بالزاد وسلمه الخاتم ليكشف المستور، وكذلك كان، ذهب الربيب المغدور للدار وهو غير معروف فاستقبلته الأم بالترحاب والبشاشة وناولته بيضاً ولحماً وسائر النعمة حتى أصيب بالتخمة ، وبعدها ناولته زاد ربيبها وأوصته بعدم تذوقه لأن فيه ما يُهلكه . فغادرها الربيب المغبون البيت وفي رأسه القرار أن لا يعود، حتى وصل لمكان الأخ وصارحه بكل ما حدث من البداية الى النهاية و وليتاكدا من الأمر، ناول كلبه قطعة من الطعام فمات بالسم فازداد الهم ، فلم يتراجع الربيب عن الرحيل ليطلب السلم وينعم بالأمان، وأثناء الوداع، ناول أخاه نبتة تكون بمثابة علامة « إن اصفرت فهي تدل على مرضه وان يبست فتدل على موته » ثم فارقه وهو حزين للفراق اللعين وسار كل واحد منهما في طريقه ودموعهما تبلل الخدان.
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
رحيل الفارس الأقرع ” الرّبيب “
ذهب الأقرع الربيب في طريقه يبحث عن حياة لا يعلم عنها لا القليل ولا الكثير، حتى دخل أرضاً بين الجبال، فسمع صوت الرجال تحذره من الذئاب . فرد عليهم ببسالة الشجعان : أتخوفونني من الذئاب ، كم تعطوني لقتل كل الذئاب وأخلصكم من شرها في الحين والآن ؟ فقالوا: نعطيك قطيعاً من الأغنام، فشمر الأقرع وقضى على جميع الذئاب وصار عند القبيلة من الأحباب .
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
فترك القطيع عندهم أمانة حتى يعود .. وودعهم واستمر في طريقه، حتى دخل قبيلة أخرى تخاف بطش النمور فحدث له معهم مثل ما حدث مع القبيلة الخائفة من الذئاب . فخلصهم وظفر بقطيع آخر من الأنعام .. ثم ودعهم على أمل ان يعود، وسار في طريقه ، فالتقى بعشائر وقبائل أخرى تخاف الأسْد والببر والثعلب والثعابين ….ففعل معهم مثل ما فعل مع السابقين. واستكمل طريقه حتى أشرف على مدينة كثيرة النيران يتوسطها إيوان فكأنه من فعل المردة والجان فقصد منزلاً بالجوار وكان لعجوز طاعنة في السن.فطلب منها الضيافة فقبلتها وهي مضيافة وأطعمته الثريد مطهياً بالقديد وبعض العناقيد من العنب الفريد. ولما أخذ من الطعام كفايته أثنى على ضيافتها وطلب شرب الماء. فقالت: يا ولدي كل شيء تطلبه أعطيك إياه إلا الماء فاعذرني، فرد عليها الأقرع مستغرباً: الماء يا أمي هو الشيء الوحيد في الدنيا الذي يُقدم بلا مال وتجده في كل الأوطان حتى في أعلى الجبال وفي الصحراء تحت الرمال..
فقاطعته بذكر السبب، و حينها بطل العجب فقالت : يا ولدي يبدو أنك غريب عن المكان ولا تعرف ما يحرس بئر الماء. فرد بدهشة واستفهام، يريد معرفة الأخبار ، وقد استغرب وحار. فقالت له العجوز: يا بني إن البئر يحرسها غول من المردة ويفتحها مرة في الشهر للمورد وبعدها يغلقها ويمنع ماءها عن الرعية و السلطان وفي كل شهر تقدم له صبية وقصعة من الكسكس كهدية وقربان، وفي هاته الليلة وصل دور الأميرة الصغيرة صفية وهي في الكهف تنتظر قدومه.
الفارس الأقرع والغول
حينها تجمد الأقرع في مكانه وتوجه الى فرسه غير آبه بتحذير العجوز التافه وتدجج بسيفه وحرابه وقصد الكهف وهو جسور حتى رمق في الظلمة بنتاً صغيرة صبية ذات حسن وجمال فأقرأها السلام والتحية والإكرام واطمأن على حالها وتناول قصعة الكسكس وتوسد فخذها وهي تحذره من الغول ذو السبعة رؤوس، وهو من ثقته في نفسه لا يفكر إلا في بطنه. فطمأنها في الحال بقتال الغول ليخلص الناس من شره وجبروته . فقام وطلب منها أن تسهر على راحته. وتوقظه إذا الغول جاء . فقالت: فإن كان لابد من قتاله فإني أوصيك بعدم قطع رأسه السابع لأنه بذلك ستنبت سائر الرؤوس ويعود في القوة كما كان .واعلم ان قدومه يأتي مع الرعد والبرق والمطر والرياح. فنام الأقرع غير آبه بما سمع.. وبينما هو في سبات عميق ، أحست الصبية بقدوم الغول المارد الشرير وبدأت ترتعد من الخوف و تبكي في صمت حتى سقطت قطرة من دموعها على خدّ الفارس المغوار فاستفاق في الحال فعرف سبب نحيبها ونهرها عن عدم إيقاظه وبسرعة استعد في الحال للنزال.
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
قدم الغول وهو يزمجر و يصيح: آه حصان وشاب وصبية وقصعة كسكسٍ؟ يا له من كرم السلطان ! سأعفيه من العطايا سبعة دورات. فقال الأقرع ساخراً : لن يكون بإمكان أحدٍ الطلب بعد موتك يا غُوَيِّل، فرد الوحش بتهكم : أوَ تستطيع أن تقاتلني ؟ فرد الأقرع في الحال: هيا إلى الميدان وأرني ما أنت فاعل. فاندهش الغول لجرأة الفارس الأقرع وقال :إذن سأجعل لحمك لقمة ودمك شراباً في رشفة، وعظامك قلادة لي للذكرى، فطار في السّماء وهبط على الفارس كأنه العقاب فاتحاً أفواهه السبعة. لكن خفة الفارس والفرس راوغته و تحاشت أفواهه التي دخلت في التراب وانقض الفارس بخفة البرق وقطع أحد رؤوس الغول .فاستشاط المارد غضباً وحنقةً وطار في السماء ثانية حتى غاب عن الأنظار وطفق بالنزول حتى اصطدم بالتراب فانقض عليه الفارس المغوار بسيفه البتار وفصل عنه رأسه الثانية وبذلك استشاط الغول غيظاً وتدمراً، وطار في السماء أكثر مما سبق وولى كأنه الغراب يتطاير منه الشرر لكنه حدث له مثل ما سبق، واستمرالقتال على هذا المنوال حتى بقي له رأس واحد فقط فأخذ يبكي وينوح ويولول استجداء للفارس بأن يقطع رأسه السابع حتى يخلصه من عار الهزيمة.لكن الفارس المغوار انتبه للحيلة فغرس سيفه في قلبه فسقط على الرض كجدع شجرة، وهو يصدر شخيراً كهزيم الرعد حتى مات وانقطعت أنفاسه .
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
قتل االفارس الأقرع للغول
ففرحت به الأميرة فرحاً شديداً وعانقته عناقاً حاراً، شاكرة له حسن صنيعه لإنقاذها وتخليص المملكة من هذا المارد الشرير . ثم ذهبت على جناح السرعة لإخبار أبيها السلطان بموت الغول . أما الفارس الباسل المغوار فقد أفل عن الأعين وعاد الى بيت العجوز للراحة والمبيت فهذا ما كان من أمره. أما ما كان من أمر السلطان والحاشية لما رأوا الأميرة اسودت وجوههم خوفاً من بطش الغول فأسرعوا إليها مستفسرين عن سبب رجوعها فبشرتهم فرحانة غير تعبانة بما حل بالغول . فكذبوها واتهموها بالخائفة الهاربة من الغول. وبعد جدال طالبتهم بتأكيد أقوالها وإبطال مزاعمهم، وذلك بارسال فارس القصر الى البئر ليتقصى الأمر. وكذلك كان، فقد ارسل السلطان فارس القصر ليأتي بالخبر اليقين . ذهب هذا الأخير وهو يرتجف من شدة الهلع كغصن شجرة في مهب الريح يقدم رجلاً ويؤخر أخرى مسترقاً النظر حول البئر . واذا به يلمح مجرى الدم الذي ملأ المكان، وتجول بعينيه في المكان، حتى رأى الغول طريح الأرض مُخضباً بالدماء والسيف مغروس بجسده .فتقدم إليه وهو مرعوب من هول المشهد .فاطمأنت فرائسه وهدأت روحه حين رأي الرؤوس المبتورة والمريد جثة هامدةً. وبسرعة تمرغ الفارس في دم الغول وشهر سيفه وقفل راجعاً إلى القصر وهو يلهث ككلب أعياه السباق . ولما التقت عينه بأعين المنتظرين بادرهم بالخبر ، فقال: لقد وجدت الغول قادماً إلى القصر فقاتلته بكل ما أوتيت من شجاعة وقوة وهزمته وأرديته قتيلاً. لكن الأميرة ردت وهي ضاحكة مستهزئة : بخ بخ .. يا لك من جبانٍ ! وأين كنت في سابق الأيام؟ حينئذ اطمأن السلطان وقرر رؤية جثة الغول مع حاشيته , ولما رأى المنظر ارتعدت فرائصه واستبشر خيراً بالسلام ,فقرر معرفة الفارس المغوار الذي قتل الغول وخلص الناس من جبروته وشره .
إدّعى سائر الفرسان قتل الغول ,لكن الأميرة فندت ادعاءاتهم وطالبتهم فقط بنزع السيف من جثة الغول. فقالوا في هرح ومرج وأصوات متعالية : كيف تستهزئين بنا ونحن الشجعان الأشاوس ؟ وهيا لننزعنه فقط بخنصرنا. فتقدم كبيرهم وحاول نزع السيف من صدر الغول لكنه لم يفلح، وكرر الفعل دون جدوى، بل وجعل رجليه كعماد متصلبة و بدأ محاولته في سل السيف من موضعه لكنه لم يفلح. فتقدم سائر الفرسان دون نتيجة تذكر. فقال السلطان :ألم يبق منكم من يستطيع نزعه؟ فقال رجل : يا مولاي السلطان، يوجد شاب أقرع في بيت العجوز ولكني لا أظنه يستطيع حتى رفع الدجاجة الحاضنة عن بيضها فقال السلطان : عليّ به على الفور. استدعى الحرس الأقرع فجاء وهو عليه لباس أبلاها طول السفر وكثرة المعارك مع الذئاب والأسد والنمور . وآخر معركة كانت مع الغول. فتعالت الأصوات حين رأه الناس واستغربوا من ان يستطيع هذا الفقير الأقرع فعل ما عجز عنه الفرسان أفضل فرسان السلطنة : ألم يبق غير هذا المنبوذ ليقتل الغول؟
حين ذاك تقدم الأقرع وهو يتجرد من ثيابه فبانت عضالته المفتولة وكأنها قطع من الصخر فقال: أيها الشجعان البواسل , هذا الغول كان يبيدكم واحدا واحدا ولم تقدروا على مواجهته، حتى اذا نجح غيركم حقرتموه؟ العود الذي تحقرونه سيعميكم، ولقد فشلتم فقط في نزع السيف من الجثة، فكيف إذا دعيتم لقتاله ؟ حين ذلك عم الصمت المكان وفتحت الأفواه اندهاشاً وأصبحوا لا ترى منهم حركةً وكأن على رؤوسهم الطير.
فتقدم الأقرع وسل السّيف من صدر الغول بسهولة كما تسل الشعرة من العجين. فتعجب الجميع وقرر السّلطان منحه جائزة عظيمة، لكن الأقرع رفضها لشيمه ومروؤته وأنه ما قام به فقط لحاجة العجوز التي استضافته إلى الماء . وبهذا الصنيع كبر في أعينِ الجميع. فقرر السلطان بهذه المناسبة السعيدة تزويج بناته السّبعة ، إذ على كل واحدة أن تختار زوجها برضاها ومشيئتها,
زواج الفارس المغوار بالأميرة الصغرى
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
وقد نُظِّم لهذا الحدث الكبير طابوراً لمن يرغب في الزواج من بنات السلطان، وكل من أعجبت به أميرة من الأميرات، ترميه بباقة ورد تكون بمثابة رسالةَ قبول. وكذلك كان، فقد اختارت الأميرات الكبريات أبناء الأغنياء والوجهاء إلا الأميرة الصغيرة المُخَلّصة من براثن الغول المارد , فكانت تُمعن النظر في الرجال واحداً واحداً ,ولما التقت العين بالعين قفزت من مكانها ورمت باقة الورد على رجل بلباس رث ورأس أقرع ,فلم يكن ذاك العريس إلا الفارس الأقرع بلحمه وشحمه ، فقد عرفته رغم أنه حضر متنكراً. فاعتبر الرجال من وجهاء القوم وأعيانهم هذا الاختيار احتقاراً لهم ومسا بكرامتهم، إذْ كيف للأميرة أن تترك علية القوم وأشرافهم وتلجأ للزواج بالغريب؟ فتعالت أصوات الاحتجاج شاركهم في ذلك الأميرات على سوء الاختيار، فحاولوا ثنيها عن هذا القرار، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، بخلاف أبيها السلطان ، فقد احترم اختيارها ومرادها، وأقيمت الولائم والأفراح سبعة أيام بلياليها . وبعد الزواج وأفراح الاعراس ، سكن الأقرع وأميرته في كوخ بسيط واكترى الأقرع في المدينة محلاً لإعداد وبيع الإسفنج وباقي الفطائر.،
الأقرع المنبوذ والفرسان الجبناء
و توالت الأيام والشهور ، فحدث أن مرض الملك بمرض عُضال أقعده الفراش، ففحصه الأطباء والحكماء واقتنعوا بنتيجة واحدة وهي أن دواءه هو حليب اللبؤة في جلد شبلها. فقام الملك و كلف أزواج بناته لهذه المهمة ، فلبوا طلبه في الحال، لكنهم اشترطوا فيما بينهم أن لا يرافقهم الأقرع في هذه المهمة لأنه دون مستواهم . وكذلك كان، جهزوا زادهم وانطلقوا في طريقهم لا يعرفون ما يفعلون،
الفارس الأقرع بطل الأبطال في المهمات الصعاب
حليب اللبؤة دواءٌ للملك
وبينما هم يسيرون في لا اتجاه، وقد أنهكهم التعب ، إذا أبصروا فارساً بلباس أحمر يركب فرساً أحمراً يركض في اتجاههم وقد خلف وراءه زوبعةً من غُبار حتى وصل إليهم وحياهم بالسّلام وسألهم عن مقصدهم فأخبروه بوجهتهم ومهمتهم، و الارتباك يكتنفهم ، فقال لهم: إن جلبت لكم ما تنشدونه فماذا ستعطوني؟ فقالوا: أي شيء تطلبه فقال :أريد فقط شحمة أذنكم فالتفتوا حولهم في تعجب وهم يتساءلون، ما هذا الطلب؟ فقال هو ذاك، و بعد تفكير وتردد مدوا إليه أعناقهم فبتر شحوم آذانهم ووضعها في كيس وانطلق كالسّهم قاصداً الغابة فعقل فرسه في جذع شجرة ثم أخذ يسير ببطء باحثاً عن مراده، حتى لمح لبؤة نائمة وحولها الأشبال ترضع فتقدم حبوا الى أن وصل اليها وأخذ يرضعها , فأحست اللبؤة باختلاف بامتصاص غير معتاد، فانتبهت وإذا بها ترى آدمياً يرضعها فقالت له: لقد صرت واحداً من أولادي فلو جئت لتأخذ واحداً منها أعطيتك إياه فأخبرها حاجته فأجابته لذلك، لكن بشرط أن لا تسمع صراخ إبنها، فأخذه الى شِعبة قريبة وبتر رأسه بالسيف دون أن يشعر بالألم أو يصرخ فنزع جلده وصنع منه قربتين واتجه للبؤة فحلب منها الحليب ووضعه في القربتين وودعها وانصرف مُدْبراً الى الفرسان الستة، فناولهم قربة الحليب وأخفى الأخرى عنهم لحاجة في نفسه. ثم ودعهم وسار كل في طريقه. فأما الأقرع فقد سبقهم عبر طريق مختصر الى دكانه فمرّوا عليه وبعثروا تجهيز الدكان وعاثوا فيه فساداً , لكنه لم يقاوم لأنه يدبر لأمر أعظم, وبعدما تركوه و توجهوا مباشرة الى السلطان فبشروه بالسلامة والفرج وناولوه الحليب ,فشربه في الحين وغفا غَفوة اسيقظ بعدها وكأنه لم يكن معلولاً قط , فهنأوه بالصحة والعافية الدائمة , فشكرهم غاية الشكر و أكرمهم غاية الإكرام وجعلهم من المقربين , وبهذه المناسبة أصدر السلطان أمره المُطاع بإقامة الولائم و كسوة الفقراء والمحتاجين وتوزيع العطايا وإطلاق صراح من في السجون , وفي ليلة الحفل اجتمع مع أصهاره وبناته وأخذ يتحدث معهم دون الإلتفات الى الأقرع لِمَا بلغ إلى علمه أنه لم يشارك معهم في جلب الدواء, فأما الأميرات الأخريات فكن يتشدقن ببسالة بعولتهن أمام الأميرة الصُّغرى , لكن هذه الأخيرة كانت صامتة لا ترد عليهن لمعرفتها بقيمة بعلها وأيضاً لذكائها وفطنتها وخصوصاً لما غاب عنها الأقرع في فترة جلب الحليب..
ماء بين جبلين دواءٌ للملك
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
وبعد مُدة ليست بالطويلة، ألَمَّ بالسلطان داءٌ عضال أقعده الفراش أيضاً ولم يعد يفارقه , فاجتمع الأطباء والحكماء وأجمعوا على دواءٍ واحدٍ للشفاء وهو ماءٌ بين جبلين ، بحيث أن نبع الماء في باطن جبلين ينشقان مرة واحدة في السنة ولثلاث ثوانٍ فقط. ومن حاول جلب هذا الماء يُطبق عليه الجبلان. حار الجميع في الأمر واستعظموه ,لكن شخصاً فطناً في القصر أشار بأنه من تمكن من جلب حليب اللبؤة فهو قادر على جلب الماء , وبذلك كُلِّف أصهار الملك بالمهمة ,فلبوا الأمر دون تردد وهم يتمتمون: ما نجونا من محنة حتى سقطنا في أخرى أعظم منها. فودعوا الجميع وساروا في طريقهم لا ينوون على شيء حتى بدا لهم فارساً مغواراً قادماً بفرسه يقدح النار من تحته ، و يلبس الثوب الأصفر , حتى وصل إليهم وهم واجمون من الخوف، فألقى عليهم التحية ، وسألهم عن وجهتهم ومقصدهم. فأخبروه بالأمر كله كأنهم يستنجدون به . فتعجب من هول المهمة ووصفها بأنها مستحيلة ، وبعدما استيقنوا أنهم في مأمن و تنفسوا الصعداء باشرهم بالقول : ماذا تقدمون لي لو نُبْـتُ عنكم في هذه المهمة وجئتكم بماء بين جبلين؟ فاستشر الجميع ووصفوا له الذهب وما يملي به عليه خاطره، ولكن الفارس رفض عرضهم وطالبهم بإعطائه فقط قطعة صغيرة من آخر خِنصرهم . فرفضوا ذلك في بادئ الأمر بدعوى أن ذلك سيحدث لهم عاهة مستديمة في أصابعهم، لكنهم تنازلوا في الأخير ليرضوا السلطان , فأخذ سيفه وبتر تلك الأجزاء من خنصر كل واحد منهم ووضعها في صُرّة ,وغادرهم متوجهاً نحو الجبيلين، حتى أدركه الليل فرأى مغارة مُتوهجةً فقصدها. واذا به يجد ناسكاً متعبداً، فطلب منه استضافته فقبلها الناسك بالترحاب وبات عنده الليلة ,وفي الصباح سأله الناسك عن وجهته فأخبره الحكاية , فتقدم الناسك إليه وأخبره عن وقت انشقاق الجبل وهو صباح ليلة اكتمال البدر عند إرسال الشمس الخيوط الأولى من أشعتها، وحذره من مغبة التهاون والتباطؤ في انجاز المهمة. فشكر الفارس له ضيافته ونصيحته ثم ودعه واتجه لعين المكان , ومن نوادر الصُّدف، أنه وصل قبل الوقت المحدد بقليل، فانتظر حدوث الانشقاء, وبعد هنيهة أخذ الجبلان ينفصلان ,ونظراً لبراعة الفارس وخفة الفرس , وثب بسرعة البرق فغرف الفارس غرفة من الماء وقفز خارج الجبلين , لكن أثناها علق ذيل الفرس بين الجبلين عند غلقه ,
والأصل أنهما نجيا من الهلاك بعدما قص الفارس جزءً من ذنب فرسه بسيفه وكواه بالنار , عاد الأقرع إلى أزواج الأميرات الذين لم يبرحوا مكانهم منذ أن غادرهم ، فسلمهم الماء مع احتفاظه بقليل منه , ثم ودعهم وسبقهم للدّكان , فعرجوا عليه وفعلوا به مثل ما فعلوا في السابق .ولما تناول السلطان الماء شفي من علته وشكرهم وفعل مثل ما فعل سابقاً.
تفاح جزيرة بنت منصور دواءُ للملك
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
ومرت الأيام والشهور فأصيب الملك مرة أخرى بداءٍ عضالٍ أقعده الفراش حتى أشرف على الموت ، واحتار الأطباء في علاجه. وبعد تحاليل ومشاورات اجتمع الأطباء و الحكماء ووصفوا له الدواء الشافي، وهو أكل تفاح بنت منصور الموجودة وراء سبعة بحور.
كالعادة رشح السلطان أصهاره وكلفهم بهذه المهمة، فاستعدوا للرحلة وهم في حيرة من أمرهم يغلب عليهم الوجل والتشاؤم. إذْ كيف لهم اجتياز سبعة أبحر لجلب التفاح المذكور وهم لا يعرفون شيئاً عما يمكن أن يعترضهم من مخاطر ؟ وبينما هم في قلقهم وارتباكهم ، إذ لاح لهم فارس ، يمشي مشية الشجاع المتمرس، وقد لبس السواد . حتى اقترب منهم فحياهم بتحية الفرسان وسألهم عن مقصدهم . فذكروا له المهمة وما بها من مخاطر. فاستعظم الأمر وزاد . لكنه تظاهر بأنه يفكر ويفكر ، فقال لهم: ماذا ستعطوني لو جلبت لكم التفاح المقصود؟ فأخذوا يعرضون عليه الأموال والذهب .لكنه رفض عرضهم ، وطلب منهم شيئاً واحداً وهو خواتم زوجاتهم. فاعتذروا له جميعهم ، لكنهم تذكروا أنهم في مهمة بأمر من السلطان. وأنهم غير قادرين على إنجاز هذه المهمة، فرضخوا لطلبه وسلموه خواتمهم. فما لبث أن ودعهم وسار في طريقه يقطع الفيافي قطعاً، وهو نفسه لا يعرف إلى أين يتجه به المسير، حتى وصل الى غابة كثيفة فدخلها حتى وصل إلى مُرجٍ به ماء وكلأ، فترك فرسه ليرتاح ويرتاع واستسلم هو للنوم والراحة. وبينما هو غارق في سبات إذ أيقظه صهيل فرسه وشخيره، فانتبه حوله فإذا بثعبانٍ عملاقٍ ملتفٍ حول شجرة عالية يبغي تسلقها .فقصده بسيفه وضربه ضربة شطرته الى سبعة أشطر. و بينما هو كذلك إذ بالشمس تُحجب من فوقه ، فرفع رأسه فإذا بطائر عظيم يحلق فوقه يقصد الشجرة . فحام الطائر حول الشجرة وهو يرمق بيضه في العش .وتحت الشجرة ثعبان ضخم مقطع بسيف الفارس الذي ما زال ينظف سيفه من دم الثعبان. فخاطب الطائر الفارس: إعلم أيها الرجل الشجاع أنني أبيض كل يوم عشر بيضات، وكلما غادرت العش وذهبت للصيد فإنني لا أجده عند عودتي ، لأن هذا الثعبان كان يلتهمه كلما رحلت. أما وقد قتلته، فإنني سأكون مطمئناً ، ولكي أشكرك، فإنني أسخر كل قوتي ووقتي لأقضي لك حاجتك لك نظير معروفك معي؟ فاستجمع الفارس تفكيره وقال: يا سيدي الطائر، إني أريد الوصول إلى جزيرة بنت منصور ، الواقعة وراء سبعة بحور لأجلب التفاح من هناك، فهل في استطاعتك مساعدتي ؟ فقبل الطائر الطلب بكل ترحاب. وطلب من الفارس بأن يجمع له أجزاء الثعبان في كيس ، وأن يعطيه قطعة كلما قطع بحراً .. وكذلك كان . ركب الفارس ظهر الطائر، وقطعا البحور الخمسة لكن في البحر السادس انفلت جزء من أجزاء الثعبان وسقط .فاضطر الفارس الى بتر جزء من لحم فخده وألقمها للطائر فقال الطائر: هذه مالحة يا ابن آدم. ولما حط به خارج قصر بنت منصور لاحظ الطائر الدماء تسيل من رجل الفارس قال له : لو علمت ما فعلت لألقيتك من ظهري في البحر، فطمأنه الفارس وقال: لا تلمني ولا تحمل هماً فقد خفت عليك وعلى نفسي .
الفارس الأقرع في قصر بنت منصور
حينئذ زوده الطائر بنصائح وتحذيرات حول كيفية فتح باب القصر . فاستعد الفارس وتناول قوساً ونبالاً وركز على العلامة بالباب ليصيبها بقوسه . ولما رمى به أخطأ الهدف .فابتلعته الأرض لركبتيه .ثم حاول مرة ثانية وقد تمكن منه الخوف .لكنه أخطأ الهدف مرة أخرى .فابتلعته الأرض حتى حزامه. ولذلك بقيت له محاولة واحدة فقط .فتوكل على الله وركز تركيزاً دقيقاً، فأزاح عنه الخوف وتجرد من كل الأفكار المشوشة ، ولم يعد يفكر سوى في القوس والنبل والهدف .ولما أطلق السهم .سار في مساره حتى أصاب العلامة بالباب .فانفتح الباب ونفضت الأرض الفارس وكأنه ولد من جديد.فتقدم وولج القصر، فإذا هو قصر مُمردٌ من ذهب وزبرجد وحوله مختلف أنواع الأشجار الغريبة والأزهار المبهرة وكل ما تشتهي النفس وما يذهل الخاطر ويفرح القلب .لكن سُكانه وحراسه في سبات عميق. وهذا من سحر بنت منصور فهي تستيقظ عاماً وتنام عاماً . تجول الفارس في الحديقة حتى وصل إلى بستان التفاح المقصود فتناول واحدةً أذهبت عنه التعب والجوع والتأم جرحه في الحال .فقام وجمع قدراً منه للحاجة .ثم عاد لمقر الأميرة الغالية بنت منصور وكتب لها رسالة يخبرها فيها بوصوله إلى قصرها وما صنع فيه. ثم تركها وغادر القصر ليلتقي بالطائر الذي ينتظره حيث تركه قبل ولوج القصر . فهنأه الطاشر على سلامته ثم حمله ليعود الى المُرج الذي به عش الطائر وفرس الفارس . فشكره الفارس وركب فرسه وعاد يسابق الرياح صوب أصحابه الفرسان، فحياهم وناولهم مبتغاهم بعدما احتفظ بقدر منه .ثم تركهم لحالحهم و أسرع السير ليسبقهم الى دكانه وغير ثيابه ثم انتظر مرورهم كالعادة . واذ بهم يمرون عليه و يمطرونه بوابل من السب والشتم والاحتقار وتكسير الأواني وما إلى ذلك. ولما دخلوا القصر علت الزغاريد والهُتاف لتحية الفرسان الأشاوس العظام .فزادهم ذلك فخراً وزهواً و مما زاد من كبريائهم شكر الملك لهم و تشريفهم على بسالتهم النادرة . فتناول الملك التفاح بشراهة وزادت عنده الحيوية والنشاط كأنه فحل في ريعان شبابه و تخلص من أسقامه وعِلَله. فقرر كالعادة تنظيم حفل لسبعة أيام وأطلق سراح من في السجون ووزع العطايا والصدقات وعفا شعبه من أداء الضرائب والمُكوس. وخلال اجتماع العائلة شرعت الأميرات الكبريات يتغامزن على الأميرة الصغرى ويلمحن لها بأن: الصغير يبقى صغيراً والكبير يزداد هيبة وتشريفاً.
حقيقة من جلب الدواء للسلطان
و بعد أن مَنَّ الملك على أصهاره الستة وأغدق عليهم بالهدايا والعطاء، توجه بالكلام إلى الأقرع: ياولدي، كما تعلم فقد مرضت ثلاث مرات .لكنك لم تهتم لأمري وكأني لا أعني لك شيئاً. فقال الأقرع: كلا يامولاي، فأنا دائماً حاضرٌ وملبٍ لأوامر السلطان ، فتعجب الملك من كلام الأقرع وجسارته، بينما قهقه الباقون بالضحك والاستهزاء . فقال الأقرع: ومن جلب لك حليب اللبؤة في جلد شبلها؟ فاستغرب الملك لجرأة الأقرع وقال :ألا تعرف أنهم أصهاري الشّجعان؟ فرد الأقرع : إسألهم عن شحمة آذانهم أين اختفت؟ فالتفت إليهم الملك وهم يستترون بأطراف عمائمهم وهم في حيرة من أمرهم. فقاطعه الأقرع: هاهي شحمات آذانهم مع حليب اللّبؤة في جلد شبلها ، فتعجب الملك لأمره وهو يبادره بالسؤال : ومن جلب الماء بين جبلين؟ فقال الأقرع : أنظر الى أطراف خناصرهم؟ فجفل الأصهار كالخرفان من الذئب، وبدت عليهم الدهشة و احمرت وجوههم وتقاطر العرق من على جبينهم، فحار الملك في الأمر وقبل أن يطول استغراب الملك، أخرج الأقرع ست قطع من خناصرهم من داخل كيس مع ماء بين جبلين. فتذوق الملك الماء وهو يسأله : لم يبق إلا أن تقول أنك جلبت التفاح أيضاً؟ فرد الأقرع بثقة زائدة : أجل سيدي الملك، فقال السلطان: ومادليلك على ذلك؟ فقال الأقرع : ها هي خواتم أصهارك مع تفاح بنت منصور .
الأقرع يُعين ملكاً من قبل السلطان
حينئذ تأكد السُّلطان من أن حقيقة الأمر خلاف ما أظهره أصهاره الجبناء، فأعلن على الملأ أنه يتنازل على نصف سلطنته للأقرع الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار، والذي عرض حياته للخطر من أجل السلطان وأمن الأمصار . حينئذ انطفأت الأضواء في أعين الأصهار والأميرات الأخريات ونكسوا رؤوسهم خجلاً وحقداً .ورفعت الأميرة الصغرى رأسها عالياً وهي تقول: لا بد للصغير أن يكبر ويمكن للكبير أن يُذل.
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
معركة الحسم بين الأقرع وبنت منصور انتهت بالزواج
وبعد شهر من هذه الحادثة إذا بالملك الأقرع يُـخْبَـر بجيش جرار تتبعه سحابة من غبار قادم من خلف الأسوار قاصداً مملكة البطل المغوار . وكان ذلك جيش بنت منصور التي تسكن وراء سبعة بحور . فهي عندما استفاقت من سُباتها وجدت باب قصرها مفتوحاً فأقسمت على قتل من انتهك حرمة قصرها .وعندما قرأت رسالة الأقرع عرفت مكانه وبلده .فقصدته بجيشها العرمرم تبغي شن الحرب عليه. اصطف الجيشان كأنهما جبلان استعداداً للحرب والاقتتال .ومن غريب الصدف، امتنع الأصهار عن دعم ومساعدة الأقرع في حربه أمام استغراب السلطان وحاشيته . أما الأقرع فقد نظم الصفوف ودقت الطبول والدفوف لملاقات الخطر المعروف . وقبل المعركة نودي لصناديد الفرسان من كلا الجيشين لأجل المبارزة والطعان. فاقترح الأقرع على بنت منصور المبارزة في الميدان، لتجنب سفك الدماء و قتل الأرواح من كلا الطرفين، والغالب منهما يتملك المملكة بجنودها وخيراتها . فاستبشرت بنت منصور خيراً بالفكرة، وهي التي لا يشق لها غبار في المبارزة والمنازلة فقد صارعت كل فوارس مملكتها وهزمتهم ، لذلك كانت لها ثقة زائدة بنفسها. فلما نزلت لساحة الوغي، قابلها الفارس المغوار ، فكلما فتحت بنت منصور باباً أغلقه عليها الأقرع .فدامت المنازلة والمبارزة مدة يومين .و في اليوم الثالث باشرها الأقرع بنوعٍ جديدٍ في القتال، لم يخطر لها على بال، حتى أنهكتها المبارزة وتمكن منها اليأس والتعب والإرهاق، إذا بالأقرع يباغتها بضربة ملتوية أسقطتها مع سيفها أرضاً فحاول شطرها نصفين إلا أنها صرخت مستنجدة طالبة العفو .فتجمدت يده وهو يتمعن النظر في حسنها و جمالها ورشاقتها .فقاطعته بِعَرْضِها وهو أن يتزوجها و قد أغرمت به وأغرم بها لما يتمتعان به من الشجاعة القتالية العالية .وقد وجدت نِدها وفارس أحالمها فتنازلت له عن السلطنة وأقيمت الولائم والأفراح و بعد التئام الجراح صار الكل في انشراح وطربوا وغنوا وصاح من صاح وسهر الكل حتى الصباح .
صارت الأميرة الصغرى و الغالية بنت منصور صديقتين حميمتين وتعايشتا مع الأمر دون حقد أو غل حتى أحستا بالوحم في نفس الوقت والأوان فعمت الفرحة والبهجة الأسرة وكل البلاد . اشتغل الملك الأقرع بالحكم وانغمس في حياة الرفاهية والملذات، حتى ملّ تلك العيشة وبدأ الحنين يلاحقه ويدفعه للترحال والمغامرة كما كان.
الفاجعة
فقرر الذهاب للصيد في جبل متاخم لسلطنته ، وكذلك كان، فأعد زاده وعتاده واتجه صوب الجبل ليبدأ مغامرة في صيد الوحوش والغزلان حتى أظلم عليه الليل فقصد مغارة وأشعل ناراً و أخذ يشوي اللحم ويأكله حتى أتخم وهو يستدفئ ويضيف الحطب إلى النار، وبينما هو كذلك، إذْ به يسمع ارتعاش البرد وصوتاً به أنين يناديه : يا ولدي أريد أن أستدفئ معك، فإني أموت من البرد .فالتفت إلى مصدر الصوت فإدا هي امرأة عجوز يبدو عليها الفقر والضعف فقال لها : اقتربي يا جدة، ومرحبا بك ، استدفئي وأكلي من طرائدي . لكن العجوز ردت عليه وهي تخفي نظرتها الماكرة: ياولدي إني أخاف من فرسك وكلبك، فرد الأقرع وهو يضحك : لا لا تخافي يا أمي فهما لا يؤذيان من جاء مستسلماً . حينئذ زمجر الكلب والفرس لإحساسهما بالخطر، فجفلت العجوز وهي تناوله شعرتين من رأسها :ياولدي أرجوك أن تلوي إحدى هاتين الشعرتين على فم الكلب والأخرى على رجلي الفرس. فتعجب الأقرع من طلبها ونفذه فوراً جبراً لخاطرها وليس لتنفيذ حُمقها. حينئذ جمد الفرس في مكانه واسترخى الكلب في مكانه كأنه خروف وديع . فتقدمت العجوز للنار وتناولت شيئاً من الطعام وأما الأقرع فأسلم نفسه للنوم . حينئذ خرجت العجوز من صورتها الإنسية الى غولة بشعة المنظر وكل ملامحها تنبئ بالخطر فانقضت على الأقرع وابتلعته كأنه فأر، ثم توجهت للفرس والكلب فابتلعتهما وهي تزمجر وتولول فثقل جسمها وارتخت أوصالها فانبطحت على الأرض لتنام. هذا ماكان من أمر الملك الأقرع. أما ما كان من أمر أخيه الأقرع .فقد خرج يوماً في وقت السّحر فرأى النبتة العلامة التي سلمه إياها أخوه الأقرع المهاجر قد بدأت في الذبول . ولذلك جمع عدته وأسرج فرسه وغادر قرية أمه سالكاً اتجاه عن أخيه . فسار في طريقه حتى إذا دخل قرية الناس التي تخاف الذئاب نادوه: أيها الأقرع الشجاع خذ قطيعك فقد أصبح قطعاناً. فعرف الأقرع منهم أن أخاه قد مر من نفس الطريق ولذلك قال لهم : هاهو أمانة عندكم حتى أرجع . فواصل السير من قبيلة لقبيلة وهو يسمع نفس النداء حتى وصل لمدينة أخيه إذا به يرى ترحيباً من الناس وهم يحيون شخص السلطان بالسلامة حتى دخل القصر .وكم كانت دهشته حين سمع من فتاتين يخاطبنه: يا زوجنا العزيز كيف كان الصيد ؟ فرد الأقرع : وإلى أين اتجهتُ للصيد في نظركم فأشارتا بيديهما: إلى تلك الغابة فتركهما الأقرع فوراً واتجه الى الغابة المقصودة .ولما دخلها قصد مكاناً معيناً فارتاح وأشعل ناراً ليستدفئ . شمت الغولة رائحة الوافد فتقدمت نحوه كأنها حية شمطاء تنساب وهي تتصنع الارتجاف من البرد .
لقاء الأخوان الأقرعان
إنتبه الأقرع إليها فأنبأه قلبه عن شر مؤكد ولم يرتح لها قلبه. فقالت له مثل ما فعلت مع الأقرع الملك . لكن الأقرع هذا لما ناولته الشعرة رماها ولم يفعل مثل ما فعل أخوه . فتصنع الأقرع النوم .فاغتنمت الغولة الفرصة وبدأت تتحول شيئاً فشيئاً . لكن الفرس بدأ يصهل فانتبه الأقرع لما حوله .فاذا به يرى جسم العجوز بدأ يكبر ويتحول .فانقض عليها بسيفه فبتر يديها ورجليها وهو يقول لها: تقيئي ما أكلته؟ فقالت الغولة :سأطرحهم بدون رؤوس فقال لها: لو فعلت ذلك أوقدت فيك النار فتجشأت الغولة فطرحت الأقرع والكلب والفرس موتى. فحنق الأقرع عليها وشطرها أربعة أجزاء ثم انزوى بقرب أخيه الميت وأجهش بالبكاء والعويل. وبعد برهة رأى وزغتين تتخاصمان فقتلت إحداهما الأخرى. فقال الأقرع: ها قد قتلت أختك فردت الوزغة: ما الميت سوى أخوك .ثم توجهت لعشبة متلألئة وأخذت جزئاً منها وحكته على جسم الوزغة الميتة .فعادت هذه الأخيرة للحياة بقدرة الله المقتدر.
إنقاذ الأقرع لأخيه الملك
حين ذاك تهلل وجه الأقرع بشراً فانقض على العشبة واقتلعها من جذورها .فقالت له الوزغة :تباً لك لقد قضيت على مصدر الحياة الوحيد وحرمت الموتى من الحياة فيا لك من مغفل. لم يلتفت إليها الأقرع في بادئ الأمر إلا بعدأن حك العشبة حول بدن أخيه .ولما دبت الحياة في جسمه وبدأيتحرك حينئذ وعى قول الوزغة وندم ندماً بالغاً لم ينسيه إياه إلا معانقة أخيه مع البكاء باللقاء والفرح. جلس الأخوان يحكيان ما وقع لهما في فترة غيابهما عن بعضهما .فقضوا الليل في الغابة حتى طلعت شمس الصباح. وبعدها قصدا المدينة والناس في استغراب لمشاهدتما وكأنهما شخص واحد.حتى دخلا القصر والكل في دهشة واستفهام. ولما استحم الأقرعان ذهبا لقاعة الطعام .فزادت دهشة الزوجتين وقررتا معرفة الأقرع السلطان .فأشارت عليهما عجوز بحيلة ذكية وهي أن تضعا الملح الزائد في الطعام، ومن يحتج منهما يكون حينئذ هو السلطان وأما الضيف فلا يجرؤ على ذلك. فتم الأمر و كذلك كان .ففرحت الزوجتان فرحاً كبيراً ببعلهما وخصوصاً لما عرفا ما حدث له في الجبل مع الغولة اللعينة .فهنآه بالسلامة. مكث الأقرع عند أخيه الملك شهوراً .وفي يوم من الأيام قرر الأقرع الملك التنازل عن مملكة من المملكتين لأخيه كي يصير ملكاً مثله . فاعتذر له أخوه بكياسة طريفة وقال له: وهل نسيت أفعال أمّي؟ وربما أعيد التفكير بعد مماتها أما الآن .. فضحك الأخوان وهما يعلمان كيد النسوان .وقرر الأقرع العودة لمسقط رأسه بعد استئذانه في أخذ قُطعان الماشية من القبائل المتواجدة في الطريق. فوافق الأقرع الملك على ذلك بشرط أن يقبل هداياه الثمينة وبعض المرافقين له. قبل الأخ عرض أخيه وودعه وداعاً غير أخير وسار في طريقه. عاش كل منهما في رغد وسؤدد إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
هكذا كانت تروى القصص والروايات في مجمع الأسر ودنيا الناس حين كانت الحياة لا تعرف لمواقع التواصل الاجتماعي أثراً ولا خبر .
قصة الأقرع والغول و بنت منصور وراء سبعة بحور
دمتم فيحفظ الله ورعايته.
أرى أن هذه المواضيع قد تهمك: |
إذا أعجبك هذا المحتوى، فلا تَقْرَأْ وتَرْحَل … تَـعْلِيقَـاتُكَ تَـشْجِيعٌ لَـنَـا لِنَسْتَمِرَّ فِــي الْبَحْثِ وَالْعَطَـاء. وإِذَا كنت تعتقد أنه قد يكون مفيداً لأشخاص آخرين، فشَارِكْهَ على الشبكات الاجتماعية.