بعد المقال الذي تناولت فيه « المال يجلب السعادة أم يساهم فيها؟ » الذي عرف نجاحاً كبيراً وزيارات كثيرة، فإنني اليوم سأتكلم عن المال وعلاقته بشخصية الانسان. « المال يصنع شخصية الانسان، أم يساهم فيها، أم أن هذه الوظيفة ليست من شأنه. »
إذا كنت تملك المال، فإن الطريقة التي تدير بها أموالك هي من تكشف عن شخصيتك. تكشف عن مخاوفك وعن أولوياتك وعن الطريقة التي تتعامل بها مع غيرك أيضاً . إن المال يعتبر في أحيانٍ كثيرةٍ إختباراً لشخصيتك وقدرتها على التعايش بشكل طبيعي في كل الظروف والمواقف، وأحياناً أخرى ، قد يؤثر المال على سلوك صاحب المال فيدفعه لاستعمال سلطته متى دعت إلى ذلك المواقف .
≡ تأثير المال على شخصية الإنسان، نماذج :
إدّخار المال خوفاً وطمعاً
يضطر البعض إلى إدخار المال من المدخول اليومي أو الشهري. إذ لا يمكن أن يتصور أحدهم أن حسابه البنكي بدون رصيد. فيكشف هذا الموقف عن الخوف من الضياع. لذلك، فإن عدم وجود مال في حسابهم يخيفهم ويخلق لهم توثراً و قلقاً. في حين، سيشعرون بالطمأنينة والأمان عندما يكون لهم رصيد مريح في حسابهم البنكي. فالخوف من الضياع يجعلهم يوفرون المال ليشعرون بالأمان. في حقيقة الأمر، هذا الموقف صِحِّي ، لأن الإحساس بالأمان المالي هو حاجة أساسية تجعل الشخص يشعر بالرضا!
فمن يحب أن يأخذ ولا يعطي وينتهز أيّ فرصة للحصول على المال بطُرقٍ شتى، ويَسْعَدُ عندما يقوم يومياً بإحصاء حساباته التي يجدها في ازديادٍ مستمر فهو يعاني من الأنانية التي قد تقوده إلى الشح حتى على نفسه، لأنه اعتاد أن يأخذ دون أن يعطي بالمقابل، وعادة ما يتمتع هذا الشخص بالهدوء والثقة في المستقبل حيث يعتقد أنه يستطيع أن يحقق المزيد من المكاسب الماديّة لنفسه فقط، وهو لا يدري أنه يخسر كثيراً من الأصدقاء بسبب ماديته بل ويبتعد شيئاً فشيئاً عن أسرته، لذلك، ينصح علماء النفس هؤلاء الأشخاص بأن يحاولوا إعادة التوازن إلى حياتهم، ولا يكون المال سراً من أسرار تعاستهم أو سعادتهم. من جهة أخرى ، يمكن أن يكون الادخار وتوفير المال علامة على معرفة كيفية الاستمتاع بالحياة. لأنه يستخدم هذا التوفير كي يحفظ كرامته ولا يكون عالةً على غيره ، الادخار والاحتياط في نظره يتيح له الاستمتاع بما يحلم به من سفر، وارتياد مطعم راق من حين لآخر ، أو شراء سيارة حلمه . بهذا السلوك سيكون في حالة توازن. وقد يحدث العكس، لأنه غير مُسْتبعدٍ أيضاً، فكلما زادت هذه المدخرات وصار أكثر طمأنينة ورصيده يزيد انتفاخاً دون أن يستمتع به ، فعليه أن يكون حذراً ، لأن المال فعلاً يحسس الشخص بالهدوء والأمان ، ولكنه ليس مصدراً للمتعة قدر الإمكان. وقد يصبح سبب التعاسة! إنه أمر سيء للغاية !
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
هل هذا أسلوب حياة أم مرض الشّح ؟
في أحيان كثيرة تجد أشخاصاً يدخرون أموالهم ، ويحرصون على تزويد رصيدهم البنكي باستمرار. فتجدهم يقارنون الأسعار في كل مكان ، ويمتلكون سيارة قديمة ( خردة )، وبيت أصغر بكثير مما تستطيع تحمله، وفراش بئيس. يشترون أرخص الأشياء و يرتادون أرخص المقاهي و يتسوقون من أرخص الأسواق. بل نجدهم يخصصون جزءاً من منزلهم للكراء لتوفير المزيد من المال. كل شيء لديهم محسوب. وكل درهم ينفقونه يُحدث لهم ألماً في قلوبهم. هؤلاء يعتقدون أن هذا الادّخار هو كياسة و حسن تدبير لمواجهة نوائب الحياة، بينما يعتبرها آخرون بخلاً وشحاً وجهلاً بدور المال في حياة الناس! هؤلاء الناس يتّصفون بالحرص، وهم دائماً يخافون من غدر الزمن ولا يحبّون المغامرة.و لا ينفقون إلا بحساب وبعد تفكير طويل، وقد يفقدون فرصاً كثيرة بسبب شدّة حرصهم على أموالهم، وغالباً ما يكونون دائمي القلق على المستقبل،
يقول علماء النفس عن هؤلاء: إنهم لا يعرفون كيف يستمتعون بحياتهم رغم كل ما يملكون من مال!
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
الجشع المالي يحرمك من الاستمتاع بالحياة
كثيراً ما يرتبط الجشع المالي المُفرط بجشع القلب، فيصبح هوساً لا يمكن مقاومته. هذا النوع من الأشخاص يخافون من الشعور بالحرمان ، فهم لا يحبون العطاء ويمتنعون عن مساعدة الناس وإعطائهم الصدقات، لأنهم يتخوفون من أن يخسروا ويعودوا فقراء. إذا كنت تعرف شخصاً يتصرف على هذا النحو ، فافهم أنه يعاني بالتأكيد من نقص كبير في الثقة بالنّفس، فهو يشعر وكأنه يزداد قيمةً من خلال جمع الأموال. تماماً مثل الشخص المصاب بالنَّهم فإنه تناوله الكثير من الطعام سيجعله يشعر بتحسن. وهذا بالطبع سلوك غير سوي. لأن انفتاح القلب سيسمح له بالتواصل أكثر مع الآخرين واكتساب روابط عاطفية تعيد له الثقة بالنفس و تملأه أكثر من المال. ويبقى الأمر متروكاً له لإدراك ذلك ، لا يمكنك إجبار أي شخص على إدراك عيوبه .. إذا كان يرفض النصيحة من الأصل.. وليس هذا فحسب فقد لا يمنحك فرصة للكلام معه إذا كنت قليل المال. لغته الوحيدة التي يتواصل بها مع أقرانه هي المال ولا شيئ غير المال. لذلك فهو يعيش عبداً مملوكاً للمال.
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
تبذير المال بدون حساب، أي سلوك هذا لأي شخصية؟
هناك فئة أخرى تنفق المال الكثير. وهم المبذّرون الذين يكرهون وجود المال في جيوبهم ويعيشون اللحظة، ولا يهمّهم الغد، ويؤمنون بالمثل القائل “الدرهم الذي لا يسعد صاحبه ملعون” ! وغالباً، هذه الشخصية تواجه العديد من الأزمات، وتضطر إلى الاستدانة، وتعيش معظم حياتها على الديون.
لا تنظر إلى ما يمكن أن يحدث لهم غداً من حاجة وعوز. فهم لا يربحون القليل.لكن شيئاً ما يجعلهم ينفقون بدون حساب. فقد تجدهم ينفقون أكثر مما يربحون، وهم دائماً يترددون على البنك ليقترضوا. ويحرقون كل ما يدخل جيوبهم المثقوبة. فشعورهم بالاضطراب والقلق يجعلهم يصرفون أموالهم بحثاً عن المتعة والحيوية إلى درجة أنهم يعملون كثيراً. لأن الحاجة إلى المال هي القوة الدافعة لهم. نتيجة لذلك ، فهم لا يعملون بالرضى ، بل في ضغوط. علاوة على ذلك ، فهم لا يحبون وظيفتهم حقاً! في حين أن البعض ينفق كثيراً كانتقام لحياة الشح التي عاشها في صغره لأن أبواه كانا بخيلين إلى حد لم يعش طفولته كأقرانه رغم توفر المال لدى والديه. لذا فإن موقفه هو أيضاً ردةُ فعلٍ على طفولته. و تكمن مشكلة هذا النوع في كون ارتباطه بطفولته تجعله طفلاً في سن متقدمة. فهو لن ينجح حتى في حياته الزوجية لذالك تجد البعض لا ينفق على بيته بقدر ما ينفق على نفسه خارج البيت بحثاً عن المتعة التي حرم منها في الماضي ، فتتولى زوجته تدبير ميزانية الأسرة إن كان لها دخل خاص بها. فيلقي عليها الزوج كل ثقل تكاليف البيت ليحرق هو مدخوله بحرية. و يعتمد عليها بشكل كبير في إدارة البيت وفي أوقات الأزمات المالية الحادة التي تحدث بشكل منتظم. لذلك يكشف موقفه من المال عن عدم النضج ، والشعور بانعدام القيمة الشخصية ، والحاجة إلى التحفيز على العمل ، وخيبة الأمل في مهنته.
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
هوس حب المال مرض نفسي أم إبراز شخصية قوية
يقول الدكتور زهير شاكر : إن هوس حب المال يعتبر من الامراض النفسية ، وبرر ذلك بدراسة مفادها أن « الهوس بالمال وراء العديد من الجرائم التي يعرفها المجتمع، كالرشوة، الاختلاس، الاحتيال، التهرب من الضرائب… كما قد يؤدي إلى الوقوع تحت طائلة الديون… »
كما « أن المال قد يؤدي إلى بعض الاضطرابات أو الأمراض النفسية والاجتماعية وذلك لأن الأفراد يعتبرون المال حلاً وليس مشكلة، صحة وليس مرضاً. »
أما “الأنا” العقلاني المنطقي في الشخصية هو الذي يزن الأمور المالية طبقاً لقواعد المجتمع وقوانينه وفقه الواقع وقوانينه.
التسويف يجعل المال غاية لا تدرك
قد يمطرك بعض الأشخاص بنظريات لا تعد ولا تحصى، فيعمدون إلى بناءِ قصور من خيال ، لكنهم يتقوقعون في ركن التسويف لا يعملون ولا يحاولون تجسيد خيالهم على أرض الواقع. هؤلاء تجدهم على كراسي المقاهي يخططون طول اليوم ثم يصفقون على أنفسهم خِلسةً ويذهبون للنوم حين يتعبون من الأحلام . ومع مرور السنين ، يجدون أنفسهم في مكانهم لم يحققوا شيئاً، بينما آخرون قد تقدموا سنوات في مشارعهم. هؤلاء الكسلاء ينصبون أنفسهم أساتذة في التخطيط و بناء المشاريع حين تحدثهم عن بعض الاستثمارات الناجحة . لاحقاً سيشعرون أنهم تافهين حين يجدون كل أقرانهم تموقعوا في مراكز اجتماعية ومالية محترمة، بينما هم مازالوا يخططون . يخططون لتدمير مستقبل أسرهم بعدما دمروا حياتهم بالتسويف والأحلام.
خوض المغامرة بالمال
يقوم البعض بمحاولات عديدة عندما يفشلون في إنجاح مشارعهم ، فهم لا يخافون من إعادة استثمار كل ما يملكون ، فهم يحبون المجازفة ويعتبرون أن المال يسمح لهم بالمغامرات. فهم لا أستطيعون أن يروا أنفسهم فاشلون ويعتبرون أن الربح يأتي بعد عدة حلقات من الفشل. والمغامرة تُعلِّم الإنسان أسرار السوق وكسب المال، بينما يتخوف الكثيرون من هذه المغامرات، خصوصاً إذا كانت لهم زوجات لا يعملن، وأطفالاً مقبلين عل الحياة مع مسؤوليات الدراسة وتوفير المال للأكل واللباس والتطبيب. فرغم الثقة الكبيرة بالنفس عند البعض فإن أغلبهم يتنحى عن المغامرة بالمال حين يتعلق الأمر بالاطفال والأسرة. فهم في الغالب لا يخلطون بين المال والقيمة الشخصية.لأن لديهم ثقة في نأفسهم وأنهم يعتقدون أن المال هو وسيلة للمغامرة من أجل ربح أكبر. لكن في وجود أسرة فإنهم لا يضعون كل البيض في سلة واحدة ، وهذا ما يقوي إسرارهم على البحث عن طرق أكثر فاعلية لجلب المزيد من المال.
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
علاقتكَ بالمال تُحدّد شخصيتك!
يمكنك الآن وضع نفسك تحت مجهر الاختبار، وتقوم بتحديد شخصيتك على أساس بعض المعطيات الواقعية:
- كيف تتعامل مع المال؟ هل أنت شخصية تحددك كيفية التعامل مع المال؟ وهل تؤمن بأن الانفاق بعقلانية يجعلك أكثر هدوءاً و اطمئناناً .. إنطلق من هذه المقولة لتعرف من أنت: « أنفق ما في الجَيْب يأتيك ما في الغَيْب » ، طبعاً مبدأ خاص بالذين ينفقون ولا يخافون من الفقر وبالتالي تجد يدهم دائماً كريمةً سخيةً معطاءة وقلوبهم مطمئنة هادئة. حتى وإن كانوا فقراء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
- فئة أخرى تحب التوفير والادخار عملاً بالمقولة : « الدرهم الأبيض في اليوم الأسود » هؤلاء في الغالب لا يمكنهم أن يساندوك مالياً حين تحتاج إليهم، بل يصعب عليهم الانفاق حتى على أنفسهم .
علاقتك بالمال تحدد شخصيتك
علاقتنا بالمال معقدة ، وبالتالي تعتمد على تاريخنا ، وبيئتنا ، وثقتنا بأنفسنا ، وأحلامنا ، وما نقله إلينا آباؤنا وما تعلمناه في مدارسنا. لذلك ، من خلال طرحك لبعض الأسئلة على نفسك ، يمكن أن تفهم بشكل أفضل. هل أنت خائف من الضياع؟ أو هل تعلم أنك ستنجح دائماً؟ هل تحب أن يكون لديك احتياطي نقدي أم لا على الإطلاق؟ هل تنفق ببذخ أم أنك مقتصد؟ كيف تعامل والديك مع المال؟ هل لديك أحلام وتحسب أن المال سيحقق لك ذلك ، أم لك رأي مخالف ؟ أين تجد شخصيتك؟ في جمع المال أم في تبذيره؟ أم تختار الوسطية بين توفير المال واستغال كل لحظات حياتك كي تعيش؟ قد يكون طرح هذه الأسئلة على نفسك فرصة لتقييم أفضل السبل للتقدم في علاقتك الشخصية بالمال.
باختصار:
رغم اختلاف الناس في علاقاتهم بالمال بين أن يكون وسيلة أو غاية، فالمال وجد لإسعاد من يملكونه ومن لا يملكونه، فأصحاب الثروات والأموال عليهم أن ينفقوا أموالهم في قنوات شرعية، وألا ينسوا أنفسهم بالتمتع بهذه النعمة، ومن لا يملك المال عليه الحصول عليه بكل الطرق الشريفة بشرط ألا يجعل المال همه في الدنيا وألا ينفقه بإسراف.
الشخصية التي تدرك قيمة نفسها، وتعطي المال حقه كوسيلة وليس غاية، وتشعر بالتوازن في حياتها، وتعيش في سلام مع نفسها، هي الشخصية السوية المتوازنة. فلا تجعل المال يستعبدك.
أرى أن هذه المواضيع قد تهمك: |
إذا أعجبك هذا المحتوى، فلا تَقْرَأْ وتَرْحَل … تَـعْلِيقَـاتُكَ تَـشْجِيعٌ لَـنَـا لِنَسْتَمِرَّ فِــي الْبَحْثِ وَالْعَطَـاء. وإِذَا كنت تعتقد أنه قد يكون مفيداً لأشخاص آخرين، فشَارِكْهَ على الشبكات الاجتماعية.