بلد العميان
الْحَقُّ حِينَ لاَ يَجِدُ مَنْ يَنْصُرُه يَسْتَسْلِمُ لِلْباطِل
كتاب بلد العميان
هَذِهِ الرِّوايَة تَحْكي قِصَّةً غَريبَةً لِمُهاجِرين من بيرو فَرّوا من طُغْيان الإِسْبان عبر جبال الأنديز. ولكن حدثت انهيارات صخرية كبيرة في جبال الأنديز عزلت هؤلاء القوم في وادٍ غامض بعيد عن بقية العالم ، فعاشوا به إلى أن انتشر فيهم مَرضٌ غَريبٌ اجتاحَ كُلَّ سُكّانَ هذا الوَادٍ المَعزولٍ بَيْنَ الجِبال، فتسبَّبَ هذا المرض في فُقدانِ الناسِ أبصارَهُم إتِّباعاً ، وأصبحوا يُوَرِّثون هذا المرض جيلاً بعد جيلٍ ، إلى أنْ أتَى عليهم زَمانٌ لمْ يعُدْ فيهم أحدٌ مُبْصراً، وليْسَ هذا فَحَسْب، بل أصبحت كلمة «الإبصار»، أو كل ما يمكن أن يُشير إلى ما تَرَاه العَيْن، بَعِيدةً تَمامَ البُعدِ عَن قاموسِ هؤلاءِ الناس، بل لا يفهمون لها أيَّ مَعنًى حتى وإن أبدعت لهم في الشّرح، فأصبح وادِيهِمُ البَعيدُ عَن عالَمِ البَشرِ هو الكَونَ بأَسْرِه بالنِّسبةِ لَهُم، ولا يمكنهم أن يَتَخَيَّلوا عالماً أخر غير عالمهم المُظْلِم. وَنَظَراً لِتَوَاجُدِهِم في وادٍ مَعْزول، لم يَحْصُل أن زارهم أحد. وهم أيضاً لَمْ يُغادِروا واديهم قَط .
و شاءتِ الأقدار أنّ أحَدَ الغُرَباءِ المُبصِرينَ زارَ بَلدِ العُمْيان عن غير قَصْدٍ ، وهو المستكشف البريطاني وخبير في تسلق الجبال « نيونز » . كان نيونز في رحلة استكشافية مع مجموعة من الأصدقاء ، ولسوءِ حَظِّهِ انزلقت قدمه فتدحرج من أعلى الجبل إلى ذلك الوادي النائي المتقوقع بين الجبال الشاهقة ، إنه وادي العُمْيان . فمَاذا تَراهُ يَفعَل يا ترى؟ ومَاذا تَراهُم يَفعَلونَ به؟ وهَلْ تصْدُقُ في حَقِّه المَقُولةُ القَدِيمة: « في بلدِ العُمْيانِ يَكونُ الأَعْورُ مَلِكاً »؟
عندما سقط نيونز من أعلى الجبل ، ظن أصحابه أنه مات ، ولم يكونوا على عِلْمٍ بوجود وادي العميان الأسطوري في سفح الجبل، لكن القدر شاء أن لا يموت، بل سقط على وسادة من الثلج أنقذت حياته ، وحينما بدأ المستكشف نيونز المشي فوق هذه البلدة الغريبة، رأى مبانيَ المدينةِ مبنيةً بشكل غريب ، تخلو من أي شكل هندسي معماري معهود و كانت ألوان بيوتها فاقعة ومتعددة وغير متناسقة تفتقر للحس الفني ، وبلا نوافذ تذكر، فتعجب من ذلك . حينها خطر بباله أن من بنى هذه البيوت هو شخص أعمي وأن الذين يسكنونها عميان لأنهم لن يحتاجوا إلى نوافذ للإضاءة.
اكتشاف بلد العميان
فلمّا سار بين البيوت ورأى الناس يسيرون في اتجاه واحدٍ دون أن ينظروا إليه ، اكتشف فعلاً أن تلك المدينة لا يسكنها إلا العُميان ، فاقترب منهم وسار يكلمهم و يعرفهم بنفسه ويخبرهم عن المدينة التي قدِمَ منها ، وأن هناك بَشَرٌ مبصرون يعيشون حياةً مختلفة عن حياتهم . وأن العالم فيه ألوان وأشكال وفيه الليل والنهار. والشمس والقمر والنجوم وكثير من المناظر الجميلة . والناس هناك تستمتع ببصرها.
تعجب الناس مما يقول هذا الغريب، ولم يفهموا معنى وجود بشر يبصرون. فحاول إفهامهم ولكن دون جدوى. لقد ظنوا أنه مجنون أو مجذوب أصابه الخرف يحكي أشياء لا يعي معناها. وكيف لهم أن يصدقوا أن هناك عالماً تتنوع فيه أشياء إسمها الألوان ومخلوقات لم يسمعوا عنها من قبل؟
فأخذوا يتحسسون وجهه ويغرسون أصابعهم في عينيه .. بدت لهم عضواً غريبا جداً . فأخذوه إلى زعيمهم ليسمع ما يقول هذا الغريب . وحين تعثر أثناء المشي أدركوا أنه ليس علي ما يرام .. وأن حواسه ضعيفة ويقول أشياء غريبة لا تمث للواقع بصلة ..
حينها أدرك الشاب المستكشف أن هؤلاء القوم يعيشون حياتهم في ظلام دامس وأن عقولهم متحجرة لن تتجاوب مع واقعه، و عرف فلسفتهم العجيبة ومنطقهم الغريب .وبالتالي فهو بالنسبة لهم أضعف شخص في هذا المجتمع .وكيف لا، وقد مر على العميان خمسة عشر جيلاً منذ أن لجأوا لهذا الوادي النائي . وبالتالي صار عالم الناس الذي جاء منه نيونز هو الأقرب إلي الأساطير في نظرهم.
بلد العُميان
في بلد العميان يتكلمون عن الملائكة التي يسمعونها ولكنهم لا يقدرون على لمسها ( إنهم يتكلمون عن الطيور طبعاً ) و يعتقدون أن الزمن يتكون من جزأين : بارد ودافئ ( وهو ما يطلق عليه الليل والنهار في عالم نيونز).. ينام المرأ في الجزء الدافئ ويعمل في الجزء البارد. لم يكن لدى ( نيونز ) شك في أنه يتواجد في المكان الذي سيصبح فيه مَلِكاً .. سيسصبح سيّد هؤلاء القوم بسهولة تامة. لكن الأمر ظل صعباً .. إنهم يعرفون كل شيء بآذانهم .. يعرفون متي يمشون علي العشب أو الصخور . كانوا كذلك يستعملون أنوفهم ببراعة تامة.
زواج وهروب نيونز من بلد العميان
وبعد أن فشلت كل محاولاته بإقناعهم أنه الأفضل ، ويمتلك قوة البصر الذي يرى به العالم بجماله وعجائبه .. كانوا يصغون إليه باسمين لا يصدقون حرفاً واحداً مما يقول. فقرر الهرب . ولكنه فشل في ذلك بعد أن قضى يومه كاملاً في البرد يكابد الجوع . فعاد إليهم معتذراً وأنكر كل ما قاله. وأنه فعلاً لا يوجد شيئ إسمه البصر، و صرح لهم بأنه غير ناضج حتى يسامحوه ويسمحوا له بالعيش معهم ، كانوا لطفاء معه، فصفحوا عنه بعد أن قاموا بجلده ثم كلفوه ببعض الأعمال .
بعد أن بدأ يتعايش معهم، تعلق قلبه بفتاة وجدها جميلة، لكن العُميان لم يكونوا يحبونها لأنها عندهم قبيحة و وجهها حاد بلا منحنيات ناعمة وصوتها عال وأهدابها طويلة ! أيْ أن جمالها يخالف تصورهم عن الجمال . فتقدم الشاب لطلب الزواج منها ، لكن أباها وقع في حيرة، هل يزوج إبنته من شخص مجذوب هو أقل من مستواهم .. أم يتركها بدون زواج وهي القبيحة في نظر قومها ؟ وبالمقابل، تعلق قلب الفتاة بنيونز ، فهو الوحيد الذي يعتبرها جميلة . فاحتار أبوها أكثر ، وعرض مسألته على الحكماء علّه يجد منهم الرأي السديد .
فكان رأي الحكماء أغرب من الخيال. لقد قرروا أن الفتى لديه عضوين غريبين بوجهه يقعان فوق أنفه ، هو يسميهما العينين وهما من أتْلَفا عقله ، لذا يجب نزعهما حتى يصير الفتى كاملاً عاقلاً مثلهم ، وبعدها يمكنه أن يتزوج الفتاة .
هل يستسلم نيونز لرأي العميان؟
بالطبع رفض الفتى أن يضحي بعينيه في البداية وملأ الدُّنيا صُراخاً ، ولكن الفتاة التي أحبته ، أخذت ترجوه أن يفعل ! وهمست له : ليتك تقبل .. ليتك تقبل ..!. وبالتالي، أصبح العمى هو شرط الزواج واكتمال المواطنة في ذلك المجتمع الغريب .
وأخيراً رضخ الشاب نيونز لتوسل الفتاة وقرار الحكماء، فخرج لآخر مرة يودع العالم بكل روعته وجماله. وهناك رأي الفجر يغمر الوادي بلونه الساحر ، وأنهاره ووديانه المنسابة بين الروابي الخضراء والجبال الشاهقة، وسطوع شمسه ذات الأشعة الذهبية فتوقف لبرهة يتأمل ، وأخذ يفكر في كل شيء، كيف له أن يفقد كل هذا من أجل فتاة عمياء .. كيف ولماذا أقنعوه أن البصر شيء لا قيمة له بالرغم أن هذا تخلف وهراء. فانتصر بداخله حب الحياة و أدرك أن حياته هنا لطخة آثمة. فقرر الهرب للمرة الأخيرة ، فتسلق الجبل الذي منه سقط، وعندما غربت الشمس كان بعيداً جداً عن بلد العميان . ورغم أن كفاه نزفت وثيابه تمزقت لكنه كان يبتسم وهو يرفع عينيه إلى السماء ويرمق النجوم المتلألئة في الأعالي. إنتهت القصة.
في بلدِ العُمْيانِ يَكونُ الأَعْورُ مَلِكاً
لماذا بلد العميان ؟
حين تكون أنت العاقل الوحيد في زمن الجنون أو المتعلم الوحيد في موطن الجهل أو المبصر الوحيد في أرض العميان ، فإن قيمك وأفكارك وآرائك ورؤيتك للحياة في كفة وتقبل المجتمع لك في كفة أخرى. حين تكون أفكارك وقناعاتك عقبة بينك وبين المجتمع ، فسينظر إليك المجتمع كأنك شخصٌ مريضٌ، وتحتاج إلى من يعالجك. نعم سيتهمونك بالتخلف والتهور والجنون وسيبقى محكوم عليك بالشّقاء .
بالتأكيد أنّ الرواية لا تتحدث عن العمى الذي يصيب العيون وإنما عن ذاك الذي يصيب القلوب والعقول. إنها تتحدث عن الجهل يا سادة ، تتحدث عن الإعاقة الفكرية و العمى الروحي والرداءة التعليمية والفساد الأخلاقي وغياب القيم وعن سهولة انتشارها في بيئة خصبة ومناخ ملائم لكل الموبقات … فالجهل هو الذي يحول الناس الى كائنات بئيسة مذعورة وفاشلة في كل شيئ وهو الذي ينفخ العجرفة والتكبر في نفوس الطغاة ، فلا يسمعون إلا صوتهم ولا يصدقون إلا أهواءهم .
فعلاً، الحق ينهار أمام الباطل ويستسلم له حين لا يجد من ينصره .
في أمان الله.
قصة بلد العميان
روابط قد تهمك: